في المقال السابق تحدثت عن ثلاث مسرحيات قصيرة تنتمي لمسرح العبث في فترة التسعينات ، كتبتها في سنوات متلاحقة .
اليوم قد آعرض لمسرحية أخري منسية ضمن أعمالي التي أصبحت حبيسة الأدراج .
إنها مسرحية ( أمير الفقراء ) وهي مأخوذة عن السيرة الذاتية لوالد زوجتي الشاعر حسن فتح الباب ، فقد كتبها في كتاب كبير بتفاصيل كثيرة وقصص طويلة بعضها مفعم بالتشابك وبعضها متشابه أو يوحي بالتكرار.
ومن التحديات الغريبة التي أدخلت نفسي فيها هذا التحدي ، حيث يصعب تحويل مجموعة من المقالات أو بالأحرى مذكرات شخصية وسيرة ذاتية لشاعر كبير يعيش معك تحت سقف واحد الي عمل مسرحي ، فمن المؤكد أنه قد يغضبه أن تعبر عن رؤيتك أثناء معالجتك للمقالات ، ولكني لم أخف فأنا بطبعي مغامر في الفن والابداع ، وجرئ جداً الي حد التجريب ، وواع جداً الي درجة المعملية.
وخرجت بعد شهر مسودة أولى ، قرأها الدكتور حسن وشجعني علي مواصلة العمل ، وبعد شهرين انتهيت من المراجعات والكتابة النهائية وأصبحت المسرحية حرة طليقة لا سيطرة لي عليها.
انتقدت حياته في حياته ، وسخرت من بعض مواقفه ، وعمقت بعضها ، وحاولت قدر الامكان أن أبعد نفسي عن تلك المعالجة لكن قوانين المسرح حكمتني وفرضت مسارات تتفق مع أسلوب مسرح العبث بما فيه من ضحكات صارخة وتندر وسخرية ، وكان هناك صراع بيني وبين نفسي في محاولة لعدم التدخل ولكن عقلي تغلب.
فكيف يمكن أن يقرأ الشاعر قصيدته الرومانسية أو الثورية ، بينما زوجته تعزف الموسيقي الصاخبة علي البيانو، وابنته تثرثر في الهاتفمع صديقتها في نفس الوقت؟ لا يمكنني مقاومة رصد هذه المفارقات ، ولن أفلت من عقاب عقلي اليقظ الذي لا يمكن أن يتسامح في كل مايخص التصرفات غير المنطقية.
كان التناقض بين شخصيات المسرحية الثلاث ( الشاعر - والد زوجتي ) و حبيته - والدة زوجتي ثم إبنتهم التي هي زوجتي ، حيث يعيش كل منهم في ذاته منغزلا عن المكون العام للأسرة ، وباعتباري الشخص الغريب فقد كان من السهل كشف هذه التناقضات حيث كنت مجرد راصد ومتفرج بما أملكه من حس نقدي ساخر ، وأدوات مسرحية متطورة.
هكذا خرجت المسرحية مشحونة بالكوميديا والسخرية وقد أصر الدكتور حسن أن أقرأها في سهرة عائلية بصوتي ، وخاصة أنني أستطيع تجسيد كل شخصية بانفعلاتها وانطباعاتي عنها بل رؤيتي أثناء التمثيل أو القراءة.
أحيانا كنا نضحك وأتوقف عن القراءة وعندي شك أنني سأستطيع العودة للتجسيد بنفس التركيز ، ولكن لأن الشخصيات مكتوبة وفق مسار محدد فقد كنت أسترد تخيلي للشخصية بسهولة .
رغم كل شئ كنت غير راض عن هذه المسرحية وخاصة أنني ركزت فيها علي صناعة العبث المضحك والمفارقات فهو يتحدث عن بائع الفل في الاشارة بينما زوجته تفهم شيئاً آخراً ، وتنتهج انبته خطاً ثالثا لنكتشف أن السقف الذي يجمع هذه الأسرة هو سقف مادي فقط ، بمعني أنه سقف البيت لا أكثر ، بينما البنية النفسية لكل شخصية هي بنية خاصة ومستقلة وغارقة في ذاتها ، لدرجة أنهم يستخدمون مفردات لغوية لا تصنع تقاربا بل تزيد من الغربة بينهم وبالتالي تعلو حدة الضحك والسخرية.
هنا فقط يظهر مسرح العبث واضحاً حيث تتقطع أسلاك التواصل بين كل شخصية من الثلاث ، وتتجلي التداخلات حين تبدأ الإبنه في سرد قصة قصيرة في الوقت الذي يلقي في الأب قصيدة وذلك لمجرد تشابه لفظة أو كلمة ، فهم جميعا مسحورون بتيار اللاوعي بينما أقف أنا بمفردي آتفرس مكونات حالات ثلاث وألعب دور الراوي أو بمعني آخر دور الطبيب الذي يفحص حالات واضحة الاصابة ، وكما قلت أنا ابن تيار الوعي والعقلانية والتركيز والمنطق الشديد الذي يشبه المعادلات الرياضية.
لم يكن من السهل أن أغرق بينهم ، لأن المسرح الذي آتبعه هو بنية عقلانية ، بل شديدة العقلانية والتركيز ، بالاضافة الي تكويني الشخصي الذي يشبه بناء الكومبيوتر ولا يسمح بمرور معادلات أو شفرات فيها أخطاء منطقية لن يستطيع تحويلها الي تطبيق .
فكانت هذه المسافة التي خرجت منها المسرحية وفي إعتقادي أنها أنسب المسافات ، فهي لا تنحاز الي شخص أو موقف ، بل هي مسرحية استقلت عن المقالات وعن صاحب المذكرات بل استقلت عني أنا كاتبها .
رغم كل هذا الاختلاف فقد كونت الضلع الناقص في المربع ، فاكتمل هرم بزواياه الحقيقية ، وشفراته الطبيعية ، وأبجدياته الخاصة أو العامة ، وأصبحت واحداً من العائلة ، بل ركن مهم عليه واجبات جسام علي المستوى الاجتماعي والانساني وهو ماجعلني أضع المسرحية في الصندوق محاولا نسيانها باعتبارها ملمحاً أسرياً وعائيلياً.
كل الحقوق محفوظة طارق حسن